أباتيك بوريات ... حين تتحول التجارة إلى ذاكرة مدينة

بواسطة mohamed

في قلب مدينة أطار، حيث يذوب الرمل في تفاصيل الحياة اليومية، وتتمازج رائحة السوق بنداءات الباعة، تسكن حكاية "أباتيك بوريات" في وجدان الناس كأنها أنشودة قديمة، ترددها الألسن، وتحفظها الأرواح قبل أن تسجلها الصفحات.

لم تكن تلك الحوانيت، التي اشتهرت باسم "بوريات"، مجرّد أماكن للبيع والشراء، بل كانت امتدادًا لروح المدينة، وجزءًا لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي والثقافي. 

هناك، في أزقة السوق العتيق، حيث كانت الحياة تدور ببساطتها، وُلدت الحكاية، قبل أن تداهم النيران بعض أركانه، وتجبر "بوريات" على الانتقال إلى دار أهل ترياف، بجوار نقطة الخطوط الجوية الموريتانية، وهناك بدأت مرحلة جديدة، أكثر رسوخًا وأشد وقعًا في الذاكرة الجماعية.

اسمٌ من زمن الحرب... وذاكرة من زمن الوفاء

الاسم ذاته يحمل قصة تستحق التأمل؛ يُروى أن "بوريات" مشتقة من تحوير محلي لعبارة إنجليزية رددها الجنود أو الطيارون الأمريكيون خلال الحرب العالمية الثانية: "I’m sorry" أو "I’m borry"، التقطها أذن الباعة فصارت "بريات"، لتصبح لاحقًا عَلَمًا يختصر تجربة كاملة، أكثر من مجرد اسم.

وما بين اللغة والحكاية، نشأت علاقة فريدة بين التجارة والثقافة، حيث لم تعد السوق فضاءً ماديًا لتبادل السلع، بل تحولت إلى ملتقى للأخلاق والتعاون والتكافل الاجتماعي.

خمسة رجال... وبصمة لا تُمحى

أربعة رجال من أطار وضعوا حجر الأساس لتلك التجربة المتميزة:

  • إبراهيم ولد كايه
  • محمد السالك ولد سيد المين
  • محمد الأمين ولد باب أحمد (الشريف الليلة شهرة)
  • سيدي حرمه ولد عمار

ثم جاء الأصغر بينهم، سيد أحمد ولد فكناش، ليكمل عقدًا من الثقة والشراكة والعمل الدؤوب. 

لم تكن "بوريات" مجرد مشروع تجاري مشترك، بل كانت نموذجًا عمليًا لمفهوم "العمل الجماعي" النابع من قيم الانسجام والتفاهم والإخلاص.

لقد مثّلت هذه التجربة درسًا عمليًا في كيفية تحويل التجارة من مجال للمكاسب الفردية إلى فضاء للتكامل الاجتماعي، حيث تكون الأخلاق هي رأس المال الحقيقي.

بوريات... من الأسواق إلى الذاكرة

اليوم، لم تعد الحوانيت كما كانت؛ بعضها تحول إلى مطاعم، وبعضها الآخر صار وكالات سفريات. 

تغيّرت الوظيفة، وتبدلت الواجهات، لكن ما لم يتغير هو الحنين، والذاكرة التي ما تزال ترفرف فوق المكان.

أبناء أطار، حين يمرون بتلك الزاوية من المدينة، لا يرون مجرد أبنية قديمة، بل يستعيدون زمنًا كانت فيه التجارة مرآة للقيم، وزمنًا كانت فيه الأسواق أماكن للاجتماع والسكينة، لا الصخب والربح فقط.

في "بوريات"، كانت الأبواب تُفتح على الأمانة، وكانت الصفقة تُعقد على الثقة، وكانت المصلحة العامة مقدمة على الحسابات الضيقة. 

وهو ما يجعل من هذه التجربة، حتى اليوم، نموذجًا يُستحسن أن يُستعاد ويُروى، لا لمجرد الحنين، بل لتذكير الأجيال بأن الأسواق يمكن أن تكون مدارس للأخلاق، وأن الذاكرة التجارية جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية.

 ما تبقى من "بوريات"

قد لا تبقى من "بوريات" إلا صور باهتة في الأذهان، وأسماء مطموسة على الواجهات، لكن الأثر الذي تركته أعمق من أن يُمحى. 

فهي لم تكن مجرّد مشروع تجاري، بل كانت حكاية مدينة، وفصلًا مضيئًا في كتاب أطار.

وهكذا، تظل "بوريات" شاهدةً على زمنٍ من النقاء والبساطة، وعلى تجربة تجارية وإنسانية يصعب تكرارها في زمن تغيرت فيه المعايير، لكنها ستظل باقية… باقية ما بقي الحنين، وما بقي في أطار من يتذكر.