رمزية السخافة في مجتمع موريتانيا

بواسطة mohamed

يعرف المجتمع الموريتاني في أيامنا هذه ظاهرة غريبة تتسيد فيها السخافة والتفاهة المشهد حتى أصبح بعض التوافه رواد مجتمع وعلية قومه بسبب السخافة خصوصا أصحاب التفاهات المدفوعة الثمن فبضاعتهم مزجاة وأسواقهم رائجة، لا بل أصبحت التفاهة وسيلة لتقيم الدولة عالميا حتى احتلت عبر بعض التافهين المرتبة الرابعة عشر.

والسخافة قد تبدو في ظاهرها مجرد تفاهة أو انشغال بما لا قيمة له، لكنها في العمق تحمل دلالات رمزية تعكس بنية المجتمع وتفاعلاته الداخلية. وفي سياق كسياقنا، لا تخرج السخافة عن كونها مرآة لثقافة ممتدة بين الجهل والبساطة والتهكم وبين مقاومة الجدية الثقيلة والتنفيس عن ضغوط الواقع الجمة.

فالمجتمع الموريتاني، يواجه تحديات اقتصادية أقلها تلك التي هجرت معظم شبابه، واجتماعية أقلها تلك التي تنذر بتقسيمه، وسياسية معقدة أقلها تلك التي يتصدرها النظام ويحيط فيها بنيته بأرباب التملق والتزلف والنفاق على حساب المصلحة العامة. وفي مواجهة كل هذه الضغوط تنشأ السخافة على أيدي من سميناهم "مؤثرين" كوسيلة للهروب أو كـ"مساحة استراحة" من ثقل الفقر والعنوسة والجهل وقلة الحيلة. وهكذا يبدو الانشغال بالنكات العابرة، أو الجدالات الفارغة التافهة على منصات التواصل من تكتوك وفيسبوك وغيرهما، تعبيراً عن عدم جدية، لكنه في عمقه محاولة لترويض الواقع وتخفيف وطأته ما تفتئ في تزايد المتابعين لها حتى يتلقفها أصحاب منصات التواصل فيحولونها لمخرج مدر للدخل، وهكذا تنشأ حلقة مفرقة تختزل الأخلاق وتعلى قيمة المادة.

ومما يسهل انتشار التفاهة كالنار في الهشيم أنها متاحة للجميع ولا تحتاج إلى رأس مال معرفي ولا إلى مكانة اجتماعية لتكون جزءاً منها ففي المجالس والسهرات البذيئة التي ينفق عليها أرباب الثروات الطارئة المجهولة المنشأ وعلى صفحات تيكتوك وفيسبوك، يستطيع أي شخص أن يطلق تعليقاً ساخراً أو مزحة سخيفة، فيضحك له العالم أو يسخر منه، لكن المشاركة بحد ذاتها تعكس نوعاً من المساواة الرمزية التي يفتقدها الناس في ميادين أخرى كالمناصب أو الاقتصاد أو حتى في الاحترام داخل المجتمع.

فللتفاهات التي تبدو بريئة تحمل في طياتها نقداً لاذعاً للسلطة أو التقاليد الاجتماعية المحافظة فالموريتاني بشكل عام يميل إلى تمرير اعتراضه على شكل نكات أو مقطع هزلي أو تعليق بذيء تافه أو رقصة أتفه منه على منصة كل هدفها زيادة المتابعين فهذا الاستخدام المزدوج يمنح السخافة قوة رمزية فهي تعبير عن الضعف أمام السلطة، وفي الوقت نفسه شكل ذكي للتمرد غير المباشر ومحاربة القيم.

وتتقاطع السخافة عندنا مع ثقافة الفكاهة الشعبية، ومع موجات حب الظهور المدفوع بالكسب المادي والتفاهات الرقمية التي يستهلكها الشباب فهذا المزج يجعلها رمزاً لتحولات المجتمع، حيث تلتقي الثقافة الشفهية بعالم الصورة السريعة الحديثة.

وحين تُستعاد بعض "الطرائف السخيفة" التي عاشها الناس في أوقات الأزمات أو المناسبات، فإنها تصبح جزءاً من ذاكرة جماعية فالسخافة هنا ليست مجرد لهو، بل هي رمز لطريقة المجتمع في مواجهة المصاعب عبر تحويلها إلى مادة للضحك أو الاستهزاء.

نستخلص مما تقدم أن السخافة في المجتمع الموريتاني ليست مجرد تفاهة عابرة، بل تحمل رمزية عميقة إنها لغة غير رسمية لتبادل النقد، وآلية للهروب من ثقل الواقع، ومساحة للمساواة، وجسر بين الانحلال الأخلاقي والمحافظة، ولعل قيمتها الحقيقية تكمن في أنها تكشف كيف يعيد المجتمع صياغة مشكلاته وأحلامه في قوالب ساخرة تبدو فارغة، لكنها في الحقيقة ممتلئة بالمعنى، وتنذر بما لا تحمد عقباه خصوصا إذا ما تبناها النظام بسبب تأثيرها الواسع وانتشارها السريع انطلاقا من مبدأ الغاية تبرر الوسيلة.

الجيه الشيخ محمد فاضل